تيسير خلف♦
يعد معاوية بن أبي سفيان أنموذجاً ممتازاً لدراسة تأثير النزعات السياسية والطائفية المنحازة، سلباً أو إيجاباً، على الشخصية التاريخية؛ فمعاوية خصوصاً والأمويون عموماً، عانوا منذ بدايات تدوين التواريخ العربية الإسلامية، مطلع العصر العباسي، موقفَين عدائيَّين؛ أحدهما سياسي سُني يتمثل في الحزب العباسي المتحالف مع التيار الفارسي الشعوبي، وثانيهما طائفي شيعي يتبنى وجهة نظر مؤيدة لعلي بن أبي طالب وأحقية سلالته في حكم المسلمين. وفي بعض الأحيان كان هذان الموقفان يتحدان معاً في مصدر تاريخي واحد، خير مَن يمثله المؤرخ أحمد بن إسحق بن جعفر بن وهب بن واضح اليعقوبي، الذي انتهى من وضع تاريخه في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المتوكل، الأمر الذي منع من التعاطي مع شخصية معاوية، بوصفها شخصية تاريخية؛ لها ما لها وعليها ما عليها، وحصرها في أنموذج مقولب خاضع للمعايير المذهبية وصراعاتها المديدة. وعليه؛ يمكن القول إن المحصلة النهائية لشخصية معاوية بن أبي سفيان في المصادر التاريخية العربية الإسلامية المبكرة؛ هي مجموعة من المثالب اجتمعت في شخص واحد، يمكن تلخيصها في عدد من النقاط:

تشوه الخلقة
أولاً: تشوه الخلقة؛ وهذا التشوه يتعلق بقصر قامته، واندلاق كرشه، وكبر عجيزته. وتجد في المصادر الشيعية فصولاً تتفنن في سرد قصص ومواقف وأحاديث منسوبة إلى أمير المؤمنين (علي) حول هذه الصفات الشوهاء، ومنها: “قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحْبُ البلعوم، مُنْدَحِق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه ولن تقتلوه! ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرؤوا مني، فإني ولدتُ على الفطرة، وسبقت إلى الإيمان والهجرة”. وتجد مئات الشروح لهذا الحديث؛ كلها تجمع على أن المقصود هو معاوية بن أبي سفيان. وعند تأصيل هذه الصفة يعود فقهاء الشيعة إلى حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم، ونصه: “كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله فتواريت خلف باب، قال: فحَطَأني حَطْأة، وقال: اذهب فادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت: هو يأكل، ثم قال: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت هو يأكل! فقال: لا أشبع الله بطنه!”.
وبما أن كبر البطن مرتبط بكبر العجيزة، فقد ظهرت قصص وأحاديث وشروحات تتعلق بعجيزة معاوية التي ورثها عن أُمه هند بنت عتبة، كما يزعمون، ووصل الأمر إلى نسبة حديث إلى رسول الله حول عجيزة معاوية؛ هو التالي: قال الطبراني في معجمه الكبير: 17/ 176: “عن نصر بن عاصم المؤذن، عن أبيه قال: دخلت مسجد المدينة فإذا الناس يقولون نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! قال قلت: ماذا؟! قالوا: كان رسول الله يخطب على منبره فقام رجل فأخذ بيد ابنه فأخرجه من المسجد، فقال رسول الله (ص): لعن الله القائد والمقود! ويل لهذه يوماً لهذه الأمة من فلان ذي الأستاه”. وتجمع المصادر التي تناولت هذا الحديث على أن المقصود هو معاوية ووالده.

الدهاء والانقلاب على الشورى
ثانياً: الدهاء كصفة سلبية؛ وهذا الدهاء يتمحور في المصادر المبكرة حول الخدعة التي لجأ إليها يوم “صفين” برفع المصاحف، ثم تواطؤه مع عمرو بن العاص لخداع ممثل علي بن أبي طالب في التحكيم، أبي موسى الأشعري، متناسين عدالة قضية المطالبة بقتلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان. بل وصل الأمر ببعض المصادر إلى القول إن معاوية هو الذي ورَّط عثمان وتواطأ في عملية قتله، وصولاً إلى اتهام أمير المؤمنين علي بالقضية.
اقرأ أيضًا: من معركة صفين إلى سيد قطب.. السياق النفسي للحاكمية والتكفير
ثالثاً: التأسيس للملك العضوض والانقلاب على الشورى؛ وهي خلاصة معزولة عن شرطها التاريخي، لأن الوراثة كانت حلاً لمشكلة الشورى التي أدت إلى حرب أهلية قسمت المسلمين إلى أربعة أحزاب متصارعة؛ هي: حزب علي، وحزب معاوية، وحزب طلحة والزبير، وحزب الخوارج في فترة تالية، وكل يرى حقه في حكم المسلمين، علماً بأن أول مَن رأى أن الحل في الوراثة هو حزب علي بن أبي طالب، حين بايع الحسن أميراً للمؤمنين بعد مقتل والده.

دفاع أعمى
وقد تنبه مؤرخو العصر الزنكي- الأيوبي- المملوكي، ومن منطلق مذهبي سُني بحت، إلى هذا الخلل في المصادر المبكرة؛ فحاولوا إعادة الاعتبار لمعاوية، بوصفه رمزاً من رموز أهل السُّنة والجماعة، وحاولوا التعامل مع مثالب الخليفة الأموي الأول، الثابتة بالنصوص التي يستميتون في الدفاع عنها، بعقلية جديدة لجأت إلى الحلول اللغوية، فجعلت دعاء الرسول “لا أشبع الله بطنه” فضيلة ومنقبة؛ حيث وجد هؤلاء بحديث النبي، صلى الله عليه وسلم، لأم سليم: “أو ما علمتَ ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاةً وأجراً”.
وأما موضوع كبر العجيزة، فقد جعلوه منقبة من مناقب معاوية، واستشهدوا على ذلك بقصة مزعومة حول رجل وضع يده على عجيزته وهو ساجد يصلي في المسجد، وقال “ما أشبه هذه العجيزة بعجيزة هند، يعني أُم معاوية، فلمَّا سلَّم من صلاته التفت إلى ذلك الرجل، وقال: يا هذا إن أبا سفيان كان محتاجاً من هند إلى ذلك، وإن كان أحد جعل لك شيئاً على ذلك فخذه”. يقصد أن لا علاقة لك بالأمر، فهو يخص زوجها أبا سفيان، ونجد كثيراً من خطباء أهل السُّنة والجماعة حتى الآن يستشهدون بهذه القصة؛ للتدليل على حلم معاوية! مع أن القصة في مؤداها الأخير تنتقص من مروءة معاوية وغيرته على عرضه.
اقرأ أيضًا: كتاب.. الوجه الآخر للخلافة الإسلامية
نظرة أخرى
لا شك في أن الحقيقة التاريخية هي أبرز المتضررين من وجهتَي النظر المتعاكستَين تلكما؛ فاختزال شخصية كبيرة، مؤثرة في حركة التاريخ العالمي برمته، في جدل طائفي عقيم أسهم ويُسهم في تغييب حقبة تأسيسية في تاريخ العرب والمسلمين؛ وهي حقبة يمكن تتبع مسارها الحقيقي، ومنجزها، وإخفاقاتها، في مصادر شتى؛ منها تواريخ ووثائق الأمم الأخرى، إضافة إلى علم الآثار والنقوش والبرديات، وهذا ما سنحاول مقاربته في المقالات القادمة.
♦كاتب سوري