د.محمود حسين♦
أثار الحكم التاريخي للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية الشهير “دوبس ضد جاكسون” أو المعروف بحكم الإجهاض، الكثيرَ من الجدل اجتماعياً وسياسياً وإعلامياً وحتى اقتصادياً؛ حيث تنبأت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، أن حرمان المرأة من الحصول على الحق في الإجهاض سيكون له أثر سلبي على المدى الطويل على الاقتصاد الأمريكي؛ حيث سيحد من مشاركة المرأة في الاقتصاد، وأن حصول المرأة على حق الإجهاض ساعدها على الموازنة بين مستقبلها الوظيفي والعائلي.
أما بداية القضية فكانت القانون الذي صدر في ولاية مسيسبي المحافظة، والذي منع الإجهاض بعد مرور خمسة عشر أسبوعاً من الحمل؛ لأن هذه الفترة، كما رأى مشرعو هذه الولاية، هي التي يسري خلالها الروح في الجنين، ويكون للجنين بعض الحقوق؛ مثل الحق في الحياة، ولكن منظمة جاكسون المعنية بالإجهاض وصحة المرأة، رأت أن هذا القانون يخالف الدستور.
وذكرت المنظمة، في مذكراتها، أن تفسير المحكمة العليا للدستور في قضية “رو ضد ويد” في عام 1973؛ والتي صدرت بأغلبية 7- 2، باعتبار الإجهاض حقاً دستورياً مكفولاً تبعاً للتعديل الرابع عشر للدستور الأمريكي، باعتباره من ضمن الحق في الخصوصية، وبالتالي فإن قرار الإجهاض خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل يجب أن يترك للنساء وأطبائهن، وفي هذا الحكم ألغت المحكمة جميع القوانين التي تحظر الإجهاض في هذه الفترة، ولذا يعتبر هذا الحكم سابقة قضائية لها حجية القانون ولا يجوز للولاية تشريع قانون يخالف هذا التفسير من قِبل المحكمة العليا.
أما المحكمة الحالية، أو محكمة ترامب كما يُسميها الإعلام، المحافظة؛ فقد رأت أن المحكمة العليا في قضية “رو ضد وايد” ارتكبت خطأ جسيماً في التوسع في تفسير التعديل الرابع عشر من الدستور والخاص بحق الخصوصية؛ ليتضمن الحق في الإجهاض، وكذلك رأت المحكمة أن الحق في الإجهاض ليست له جذور عميقة في التاريخ والثقافة الأمريكية، بل العكس؛ فإن تاريخ القانون الأنجلوسكسوني يبيِّن أن الإجهاض كان مجرماً تاريخياً، وقد كان هذا النهج هو السائد في النظام القانوني الأمريكي ذي الجذور الأنجلوسكسونية، وحتى عندما تم تعديل الدستور وإضافة التعديل الرابع عشر “الحق في الخصوصية” في عام 1868؛ كانت معظم الولايات تجرم الإجهاض ولا تعتبره حقاً، تبعاً للتعديل الرابع عشر.

وكذلك ناقش الحكم الجدلَ الأخلاقي والديني والقانوني الذي يثيره موضوع الإجهاض؛ هل للجنين الحق في الحياة أم أن هذا الحق ينشأ بعد ولادة الجنين مباشرةً؟ وهل يعتبر الحق في الإجهاض من الحقوق الدستورية المكفولة للمرأة؟
الحكم يتعرض إلى مسألة فلسفية عميقة؛ هي العلاقة بين القانون والأخلاق، وهل هناك صلة بينهما؛ حيث إن الكثير من المبادئ الأخلاقية تُصاغ في نصوص قانونية، وهناك آراء فلسفية ترى أن القوانين الوضعية هي في الحقيقة قوانين طبيعية أو قوانين الحق الطبيعي التي تحدث عنها فلاسفة الأخلاق، وهذه القوانين الطبيعية يمكن كشفها بواسطة العقل، وتعد من المحددات الأساسية في سن القوانين والتشريعات المعاصرة.
أما القاضي المحافظ كلارنس توماس، فذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث كان جريئاً في طرح أفكاره ومعتقداته، حيث أشار في الحكم إلى أنه بما أن المحكمة تبنت تفسيراً ضيقاً للتعديل الرابع عشر للدستور، فعليها كذلك مراجعة جميع الأحكام التي تبنَّت تفسيراً موسعاً لهذه المادة وجعلت الحق في الخصوصية يشمل حق المثليين في الزواج وحق المرأة في منع الحمل.
الحكم يظهر جلياً أن تفسير القاضي وتطبيقه القانون لا يمكن أن يكون سوى نتاج للتفاعل المعقد والمستمر بينه وبين بيئته وما يشيع في هذه البيئة من عادات وتقاليد، ولذا فالبيئة تساعد في تشكيل غالب هموم القاضي وأطروحاته الفكرية والثقافية وتجعله مدركاً للقيم والأعراف التي بني عليها النظام الاجتماعي والقانوني والاقتصادي والسياسي لمجتمعه.
وهذا التأثير يظهر جلياً أكثر في النظام القانوني الأمريكي؛ حيث إن القضاة الفيدراليين يتم ترشيحهم من قِبل الرئيس الأمريكي، وتتم المصادقة على تعيينهم من قِبل مجلس الشيوخ الأمريكي؛ مما يجعل المعتقدات الاجتماعية والحزبية والخلفية الأيديولوجية للقاضي أكثر أهمية من النظم القانونية الأخرى التي يرتقي القاضي فيها السلم الوظيفي بالأقدمية وعن طريق مجلس قضائي مستقل؛ مما يجعل النخب السياسية والإعلامية ومجموعات الضغط شغوفة بمعرفة توجهات القضاة وما إذا كانت آراؤهم تتماشى مع التوجهات الأيديولوجية للحزب السياسي الذي يقوم بترشيحهم، ولذا يحاول كل حزب تعيين أكبر عدد من القضاة الذين تتفق توجهاتهم وأيديولوجياتهم مع الحزب وأعضائه.

ويزيد الاهتمام الشعبي والإعلامي عند تعيين أحد قضاة المحكمة العليا؛ حيث إنهم الأكثر تأثيراً في الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ إن لهذه المحكمة الكلمة الفصل في تفسير الدستور الأمريكي؛ وهي التي تضمن عدم تجاوز وتعدي أي من السلطتَين التشريعية أو التنفيذية على صلاحياتها ومهامها الدستورية المنوطة لها، والمحكمة تقوم بمراجعة القرارات التي يصدرها الرئيس الأمريكي وتتأكد من سلامتها، وليس غريباً أن يرأس جلسة عزل الرئيس ترامب في مجلس الشيوخ رئيس قضاة المحكمة العليا؛ القاضي جون روبرت، للتأكد من أن الإجراءات الدستورية للعزل لا تحيد عن نصوص الدستور.
والأهم من ذلك أن أية قضية مفصول فيها من المحكمة العليا تعتبر قاعدة أو مرجعاً قانونياً لما تلاها من القضايا المماثلة من حيث الموضوع والنقاط الجوهرية، ولا يجوز للمحاكم الأدنى مخالفة أحكام المحكمة العليا.
لذا يتم تصنيف قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة تبعاً لتوجهاتهم الأيديولوجية إلى محافظين وليبراليين ومتأرجحين. أما المحافظون فهم القضاة الذين يقوم فكرهم على المحافظة على التقاليد والأعراف السياسية والاجتماعية للمجتمع، ودائماً يميلون إلى عدم التوسع في تفسير النصوص الدستورية والقانونية والمتعلقة بمفهوم الزواج، والإجهاض. أما الليبراليون فهم القضاة الذين يميلون إلى التوسع في تفسير الدستور والقانون ويعتقدون أن النصوص القانونية يجب عدم قراءتها حرفياً؛ لأن النص متجدد ومطاط ويجب أن يتسق التفسير مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة.
بفضل الرئيس الأمريكي، أصبحت الأغلبية أو القضاة الستة من أصل تسعة قضاة محافظين؛ مما جعل المحكمة تميل إلى التفسير الضيق للدستور ويميل القضاة إلى المحافظة على التقاليد والأعراف السياسية والاجتماعية للمجتمع.
وبالتأكيد، سيكون للحكم تأثير قانوني سيتجاوز الحدود الجغرافية للولايات المتحدة على المدى الطويل؛ وذلك لما لهذا الحكم من تأثير مستقبلي على تفسير بعض نصوص الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحق في الحرية والحق في الخصوصية.
♦ أكاديمي ومحام إماراتي