تيسير خلف♦
تضافرت عوامل دولية شتى نقلت الأسرة الإخمينية الفارسية من إمارة صغيرة تابعة للميديين، في مدينة أشنان قرب شيراز الحالية، إلى سلالة ملكية حكمت امبراطورية مترامية الأطراف، امتدت من وادي السند شرقاً إلى مصر وبرقة غرباً، واستمرت نحو قرنين من الزمان (من 539 إلى 325 قبل الميلاد تقريباً)، وهذا الصعود لم يكن ليتم لولا دعم مجموعة كبيرة من الممالك والشعوب الكارهة لحكم البابليين القاسي، ومن ضمنهم مملكة العرب القيداريين المنتشرة في شمالي الجزيرة العربية، وبادية الشام، وصولاً إلى شرقي الدلتا المصرية.
ورغم أن المصادر القديمة تضنُّ علينا بتفسيرٍ معقول، يمكن أن يبرر سبب إعفاء ملوك الفرس الإخمينيين للعرب من الجزية المفروضة على شعوب هذه الإمبراطورية، غير أننا يمكن أن نستنتج بكل ثقة أن العرب قدموا للفرس دعماً كبيراً وحاسماً لتسهيل إسقاط المملكة البابلية، وانتصار كورش (560 -529 ق.م) على نابونيد (600-538 ق.م)، آخر ملوك بابل المثير للجدل.
مظالم آشور وبابل للعرب
تعرض العرب طوال حكم المملكة الآشورية الحديثة لاعتداء مستمر من ملوك آشور الذين كانوا يهاجمون معسكراتهم ومدنهم في دومة الجندل، وتيماء، شمالي المملكة العربية السعودية حالياً، وقوافلهم التجارية، ويصادرونها، ويصادرون آلهتهم ويفرضون الإتاوات مقابل الإفراج عن تلك الآلهة.
وكل ذلك موثق في مسلات واسطوانات شلمنصر الثالث (من 858-823 ق.م)، وتغلات فلاصر الثالث (من 745 -727ق.م) وأسرحدون (من 680 -669 ق.م)، وآشور بانيبال (من 668 – 631 ق.م)، وسنحاريب (من 705 – 681 ق.م).
وكان العرب يساندون أي محاولة للانقلاب على آشور، بسبب قسوتهم وحملاتهم الدائمة ضدهم، وابتزازهم في تجاراتهم، حيث دعموا السلالة الكلدانية البابلية بزعامة نابوبلاصر (من 658-605 ق.م) في إسقاط حكم آشور.
ولكن هذه الأسرة عادت وانقلبت على العرب، وبدأت تهدد تجارتهم. ولدينا أخبار موثقة عن حملة قام بها نبوخذ نصر (627-560 ق.م) على شمالي الجزيرة العربية، ليصل من هناك إلى مصر. كما قام خليفته نابونيد باتخاذ تيماء عاصمة له، وأقام فيها نحو عشر سنين، حاول خلالها السيطرة، ليس فقط على تجارات العرب، بل على آلهتهم التي قرر استبدالها بإلهه سين، وهذا ما خلق نقمة هائلة عليه، نجد بعض تعبيراتها في نقوش عربية صخرية قرب تيماء تلعن ملك بابل.
ولذلك كانت ثمة مصلحة عربية، لا شك فيها، في القضاء على هذه المملكة الظالمة، وكان لنجاح الأسرة الإخمينية في احتلال ميديا المجاورة، وكذلك عيلام، وتوافق عدد كبير من شعوب تلك المنطقة على منح ثقتهم لهذه الأسرة، أكبر الأثر في انحياز العرب للإخمينيين، والذين أدركوا على ما يبدو قيمة الدعم العربي في معركتهم الحاسمة ضد نابونيد، فقاموا بإعفائهم من الجزية.

إعفاء من الجزية
وقد تحدث المؤرخ اليوناني هيرودوت في العام 425 قبل الميلاد عن هذا الإعفاء، حين تحدث عن الأقاليم التي كانت خاضعة للفرس في زمنه، حيث يقول: “الإقليم الخامس، جزيته 350 تالنت (أي وزنة فضة)، كان يدفعها سكان المنطقة الواقعة ما بين مدينة بوسيدون التي أسسها الأمفيلوكيين عند الحد بين قيليقيا وسوريا، وحتى حد مصر. يستثنى من ذلك العرب الذين لم يدفعوا أي ضريبة على الإطلاق”.
في تلك المرحلة؛ لم يستطع الملوك الإخمينيين أن يفرضوا على أي من الشعوب الداعمة لهم، والداخلة في فيدراليتهم الإمبراطورية مظهراً واحداً من مظاهر ثقافتهم الفارسية المحلية، حتى أنهم كتبوا نصوصهم الرسمية بلغة وطرائق الشعوب التي حكموها، ففي عيلام استخدموا العيلامية، وفي ميديا استخدموا الميدية، وفي بلاد ما بين النهرين استخدموا الآكادية المسمارية، أما الكتابة المعيارية التي اعتمدوها فهي الكتابة التيمائية ذات الحرف المربع، ككتابة رسمية دعيت في المصادر الأكاديمية المعاصرة باسم “الآرامية الإمبراطورية”، أو “الآرامية الدولية”، حيث نعثر على أقدم الأدلة على استخدام هذا النسق من الكتابة في مدينة تيماء شمالي المملكة العربية السعودية حالياً، وذلك قبل نشوء مملكة الفرس الإخمينيين بعقود، وهذه الأبجدية والكتابة التيميائية هي تطوير عربي للأبجدية الفينيقية – الآرامية المعروفة منذ أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد.
تأثر الفرس بالعرب
ويشير هيرودوت إلى تأثر الفرس بالديانة العربية القديمة، حتى أنهم استعاروا الربة العزى التي يسميها هيرودوت أورانيا، وهي المعروفة في الديانات الفارسية باسم أناهيتا، فقبل اختلاط الفرس بالعرب لم تكن لديهم آلهة مؤنثة، بل كان إلههم الرئيس ذكراً هو أهورامزدا.
والدليل الذي لا لبس فيه حول عدم وجود هوية عمرانية أو مدرسة فنية فارسية عمت أماكن سيطرتهم، هو أن العمارة المنسوبة لهذه السلالة كانت تتغير بنغير الإقليم، فما هو موجود من أبنية وقصور وتماثيل في الشرق تنتمي لتقاليد النحت والعمارة المستقرة في تلك المنطقة، وما كان موجوداً في بلاد ما بين النهرين لا يختلف عن النحت والعمارة في بلاد بابل وآشور قبل سيطرة الفرس، والأمر نفسه في فينيقيا، ومصر، وغيرها من الأقاليم.
بعد استقرار الأسرة الإخمينية في الحكم، بدأت ترنوا ببصرها نحو مصر، لتحكم السيطرة على شرايين التجارة العالمية التي كانت تدر الأموال الطائلة، ولم تكن تستطيع ذلك من دون معونة عربية حاسمة تحدث عنها المؤرخ هيرودوت بشكل مسهب، إذ قال “أبو التاريخ” إن قمبيز أرسل رسولاً إلى ملك العرب، (لعله ملك قيدار قينو بن جشم)، ليتفاوض معه في هذا الأمر، فوافق العرب على تقديم المساعدات، وهيئوا قرباً كثيرة ملأوها بالماء، وحملوها على ظهور جمالهم حيث قدموها إلى الفرس.
وينقل هيرودوت رواية أخرى سمعها من الناس أن العرب زوَّدُوا جيش قمبيز بالماء من نهر عظيم في بلاد العرب أطلق عليه اسم كوريس، قال إنه يصب في البحر الأحمر، ويضيف: “هناك من يزعم أن ملك العرب عمل أنبوباً من جلود الثيران والحيوانات الأخرى لنقل المياه من النهر إلى صهاريج، أمر بحفرها وعملها في الصحراء لخزن الماء فيها، وإن هناك ثلاثة خطوط من هذه الأنابيب تنقل الماء إلى مسافة اثني عشر يوماً من النهر إلى موضع هذه الصهاريج”.
ويمكن الافتراض أن النهر المذكور هو نهر موسمي، كانت هذه هي الطريقة التي اعتمدها عرب قيدار لتخزين مياهه، ولكن أياً تكن معقولية القصة، فإن الروايتين اللتين ذكرهما هيرودوت تجمعان على أهمية المساعدة العربية لقمبيز في تسهيل احتلاله مصر.

ازدهار العرب
أما نتائج هذا الدعم فيمكن تلمسها من الرسومات الجدارية الفارسية المنحوتة، على طريقة جداريات ملوك آشور، والتي تصور تجاراً عرب بأزياء فارهة، وصور جميلة، وهم يقدمون الهدايا لملك فارس. وأيضاً من نص لهيرودوت ذاته عن ازدهار تجارة العرب، وثرائهم، وامتداحه لأمانتهم وحفاظهم على عهودهم.
ويبدو أن العرب عاشوا أزهى مراحلهم في ذلك الوقت، إذ لم تكن للفرس ولا غيرهم سيطرة عليهم، ولا كان هناك من يهدد قوافلهم وتجاراتهم، فتراكمت الثروات بين أيديهم، وبنوا حواضر مزدهرة في الجزيرة العربية وبادية الشام، وتوسع نفوذهم إلى المراكز الحضرية من جنوبي الأناضول وزاغروس، وصولاً إلى الدلتا المصرية. وليس أدل على ذلك مما ذكره مؤرخو الإسكندر المقدوني الذين تحدثوا عن إمارات وممالك عربية على امتداد خارطة المشرق، من منطقة أنطاكيا وأفاميا شمالاً وصولاً إلى مملكة عمانا في الخليج العربي، وبين هذا وذاك، ممالك وإمارات في جبل لبنان، وقرب دمشق وشرقي الأردن وفلسطين، وشمالي الحجاز.
♦كاتب سوري