شايع الوقيان
ملخص:
يتناول البحثُ صورةَ الأنا في الخطاب الإعلامي الديني. هذا الخطاب يتمظهر منذ الربع الأول للقرن العشرين بصيغته الحركية، وكان قبل ذلك خطاباً حضارياً تنويرياً منذ التأسيس النهضوي على يدَي رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.. وغيرهم.
التحول من الصيغة الحضارية إلى الحركية حدث مع ظهور حزب الإخوان المسلمين. لقد أصبح الدينُ ورقة رابحة في لعبة سياسية عنيفة، بعد أن كان منهجاً لتنوير الوعي العربي.
صورة الأنا هي تمثيل ذهني- لغوي للأنا الواقعية؛ لقد عمد الخطاب الإعلامي الديني الحركي إلى تشكيل صورة نمطية للأنا أو للإنسان المسلم عموماً، تستجيب لأجندة هذا الخطاب السياسية. الخطاب الديني هو الأصل المعرفي للتيارات الدينية الحركية، و”الأنا” هي أصغر وحدة تحليلية في الخطاب، ويقابلها -عملياً- التكوين الواقعي للأنا: المسلم بوصفها كادراً أو عضواً في الجماعة.
التيار الديني الحركي ممثلاً في “الإخوان المسلمين” والأحزاب المنبثقة عنها أو المتأثرة بها يضع نفسه في موضع المعارَضة السياسية؛ إذ نشأ في ظل أنظمة تقليدية راسخة، سواء ملكية أو جمهورية، وكان لا بد للحركيين من تشويه صورة الواقع السياسي والاجتماعي الذي تديره تلك الأنظمة.
هذه “الشيطنة” -إذا ساغت العبارة- إحدى استراتيجيات الحركيين في نزع الثقة عن الأنظمة القائمة. وكانت صورة “الأنا” المسلم الراهنة ذات طابع استلابي.. إنه مسلم مزيف. وفي البحث عبارات عديدة حول تفسيق وتكفير المجتمعات الإسلامية، وتصوير الحركيين على أنهم المخلِّص الحقيقي والمطهر الكفيل بالقضاء على الأدناس: أدناس الأنا الفردية، والأنا الكلية (الأمة).
صورة “الأنا” في الخطاب الإعلامي الديني الحركي مثالية؛ أي أنها لم تتحقق بعد؛ فالمسلم الحقيقي يجب أن يحمل هم الأمة مترامية الأطراف، وأن يتبرأ من الطواغيت (الحكَّام)، وأن يعبِّر في ذاته عن الجماعة. هذه التعبئة الأيديولوجية كفيلة بإنتاج ذوات مأزومة، وفي صراع مستمر مع الواقع المعيش.
وفي المطاف الأخير، ستكون الغاية غير المعلنة، والتي يرتب لها التيار الحركي، هي اتخاذ الأفراد قنابل مفخخة جاهزة لجعل كفة الصراع تميل لصالحهم. وهذا الهدف المضمر (اتخاذ شباب المسلمين حَطباً للنار التي أشعلوها) يتجلى في كتابات زعماء الحركيين وسلوكهم. ويكفي أن نراهم يرسلون أبناءهم وبناتهم إلى الغرب الكافر للدراسة في أرقى الجامعات، بينما شباب المسلمين يلقون بأنفسهم في أتون الصراع المفتعل.
هناك آليات كثيرة اصطنعها الحركيون في خطابهم الإعلامي ويرمون من خلالها إلى تشكيل صورة الأنا الملائمة لهم (المسلم الحقيقي)، ومن أبرزها آليات الترغيب والترهيب، وهجاء الواقع المعيش، والخلط الهجين بين الدين والعلم تحت اسم “الإعجاز العلمي في القرآن الكريم”. إضافة إلى التهويل وهو ضرب من الترميز للحضارة الإسلامية والتدنيس للحضارة الغربية، علاوة على تشويه سمعة خصومهم بشكل متطرف، فلم يسلم منهم الأفراد؛ من مثقفين وعلماء ورجال دين مخالفين لهم، ولم تسلم منهم المؤسسات والدول والصحف وغيرها.
لقد استعمر الحركيون، بقيادة الإخوان المسلمين، العقل العربي عقوداً طوالاً، وعبثوا به وصاغوه بشكل يناسب أغراضهم، مع إهمال الهوية الذاتية للإنسان وإهدار الحرية والكرامة على حساب الأمة والجماعة التي صوروا للناس أنهم الوكلاء عنها.

الدراسة
يعد الخطاب الإعلامي الديني عموماً اختراعاً حديثاً؛ فهو نشأ بوصفه ردةَ فعلٍ على تغلغل “الآخر” المعادي للثقافة العربية والإسلامية. وهذا التغلغل يُرى بوصفه “انتهاكاً” لاستقلالية الأنا الإسلامية ونقائها. الإعلام الجماهيري يلعب دوراً حيوياً في تشكيل ما يسمَّى بـ”الفضاء العام” الذي تتحدد فيه ملامحُ الهوية الحضارية للمسلم. والسيطرة على الفضاء العام هدفٌ استراتيجي للخطاب الديني؛ من ثم فهو يسارع، بكل جد ونشاط، لاقتحام أحدث المنتجات الإعلامية والتواصلية وتوظيفها من أجل احتكار الفضاء العام وتسيّده.
كيف استغل الخطابُ الديني الوسائطَ الإعلامية في تشكيل هوية المسلم وصورة “الأنا” الحضارية؟
هذا البحث سيكون محاولة للجواب عن هذا السؤال؛ فهناك آليات شكلية وتوجهات أيديولوجية راهن عليها هذا الخطاب من أجل صياغة “الأنا” وتطويعها لتكون في خدمة المشروع الحضاري الكبير الذي يرمي هذا الخطاب إلى تحقيقه؛ أي: استعادة صورة “الأنا” كما تجلت -تاريخياً- في السنين الأولى لنشوء الإسلام.
في هذا البحث أيضاً، سيتم فحص وتحليل طبيعة “الأنا” بوصفها “منتجاً حضارياً” للخطاب الديني، وهل هذه “الأنا” من الواقعية بحيث تكون قادرة على الصمود في هذا الكوْن المعوْلم الذي ترك الصراعَ جانباً وأحلّ محله التنافسَ والتعاونَ والتعايشَ؟
أولاً- تحرير المفاهيم:
1- الأنا.. وصورة الأنا:
الأنا تحيل إلى كينونة فعلية، وهي، ككلمة، رمز لغوي وظيفي ذو قدرة إحالية. وقد يحيل هذا الرمز إلى النحن؛ إلى الجماعة بوصفها مؤتلفاً من الأفراد الذين تربط بينهم علاقاتٍ معينة؛ عرقية أو لغوية أو عقدية أو جغرافية أو تاريخية. وأما “صورة الأنا” فهي تمثيلٌ ذهني representation للأنا ذاتها. وهذه الصورة قد تكون تمثيلاً واقعياً بحيث إنها تعكس واقعَ الأنا الفعليّ، أو تكون تمثيلاً متخيلاً بحيث يراد منها أن تكون “مثالاً” أو محكاً معيارياً تُعار به الأنا الفعلية ويحكم عليها تبعاً لاقترابها أو ابتعادها عن ذلك المثال.
إذن، فصورة الأنا لا تطابق الأنا بالضرورة حتى ولو كانت تمثيلاً مرآوياً للأنا. فآليات التمثيل لم تعد قادرة على تصوير الواقع، كما كان الفلاسفة يظنون من قبل؛ وحسبنا أن نشير إلى أن التمثيل لكي يكون مطابقاً فإن علينا أن نجدَ محكاً آخر لنقيس به مدى التطابق بين المثال والممثَّل، وهذا المحك سيحتاج بدوره إلى محك آخر، وهكذا ننخرط في تقهقر لا نهائي.
2- الآخر.. وصورة الآخر:
ما ينطبق على مفهوم “الأنا” ينطبق أيضاً على مفهوم “الآخر”. فالأنا عنصر في الثنائية الشهيرة (الأنا- والآخر) ولا يمكن فهم الأنا من دون الآخر، ولا الآخر من دون الأنا. وكلا المفهومين وظيفيان ولا ينطويان على دلالة أنطولوجية. ومعنى أنهما وظيفيان هو أن “الأنا” مجرد موقع دال داخل الخطاب، ويتحدد اختلافياً فقط بناءً على موقع “الآخر” من الخطاب ذاته. وبعبارة أخرى، عندما يكون (زيد) هو المتكلم فإنه يكون “الأنا”، وأما (عمرو) بوصفه غائباً أو بوصفه لا يشارك في إنشاء الخطاب، فهو “آخر”. لكن العملية تنقلب بمجرد أن يتعيّن مصدر القول: فعمرو يصبح “أنا” إذا كان هو منشئ الخطاب، وزيد يكون “الآخر”. ومن ثمَّ، فالأنا والآخر لا يحيلان بالضرورة على كينونة وجودية، بل على وظيفةٍ خطابية.
ومن المفارقات أن “الآخر” لا يمكن، في هذا السياق، أن يصبح متكلماً؛ فهو دائماً في محل الضمير الغائب (الشخص الثالث). وبما أنه لا يتكلم فثمة من ينوب عنه داخل الخطاب، وهذا النائب ليس سوى “الأنا”!
وفي أفق هذه الثنائية المتعارضة لا يمكن أن يقوم حوار حقيقي (ديالوج) بل (مونولوج) مضمر؛ ما دام “الآخر” لا يتكلم بالأصالة بل بالنيابة. وعليه فما يحضر في الخطاب الذي تنشئه الأنا ليس الآخر بل صورته.
3- الخطاب الإعلامي:
الخطاب رسالة محددة شكلاً ومضموناً. وهو الفكرُ بعدما تجسّد في إطار رمزي (لغوي بالعادة) فخضع بذلك لإكراهات اللغة، وآليات الترميز، وأصبح مرتبطاً بالضرورة بسياقات تاريخية معينة يكون ما هو خارجها من “اللا مفكر فيه”. الخطاب لم يعد مجرد محتوى بسيط أو رسالة بريئة بل هو منخرط في صراع تأويلي لا مفر منه. كما أن شكل الرسالة أضحى مؤثراً وأكثر فاعلية من مضمونها. وهنا تصدق مقولة ماكلوهان “وسيلة الرسالة هي الرسالة”. وعلى سبيل المثال، فإذا كان مضمون الخطاب دينياً، فإن طريقة العرض الإعلامي لهذا المضمون ستختلف عنه لو كان المضمون فنياً أو سياسياً. فالقنوات الدينية المتلفزة مثلاً لا تستخدم الموسيقى (القنوات السلفية على وجه التخصيص)، ولا آليات الإنتاج والتصوير المألوفة في البرامج غير الدينية. فما يحفّ بالرسالة من إشارات رمزية قد يكون أهم من الرسالة نفسها.
الخطاب في تمظهراته العربية والإسلامية ليس حوارياً؛ فـ”الأنا” كما أشرنا أعلاه تحتكر صياغة الخطاب، فتقدم صورة غير واقعية عن “الآخر”. ولو حضر الآخر وجلب معه “آخريته” فقد يطرد من البرنامج[1]. ومع غياب الآخر الذي يكون شرطاً أصيلاً لمفهوم الحوار، فإن الخطاب ليس سوى حوار ذاتي (مونولوج) يحيل على نفسه باستمرار ولا يشارك الآخر في صياغته. ولذا فنحن أمام ضربَين من الخطاب: مغلق (مونولوجي)، ومفتوح (ديالوجي).
طبيعة الأداة الإعلامية هي التي تحدد انغلاق أو انفتاح الخطاب، وكذلك المواقع السيميولوجية للأنا وللآخر.
4- الديني:
الديني لا يطابق الدينَ؛ بوصفه نموذجاً مثالياً. وكل قولٍ عن الدين أو في الدين يجعل القولَ مباشرةً تأويلاً تاريخياً لذلك النموذج المثالي. وبالتالي فهذا النموذج لا يمكن تحقيقه فعلياً، ولا معرفته يقينياً، فلا يبقى سوى التأويلات. وحتى التجليات التاريخية للفترة الأولى لظهور النص المقدس، هي ذاتها تعبير واقعي لا يستغرق النص كاملاً.
لكن التأويلات تتباين تبعاً لتباين المنطلقات الفكرية والأغراض الأيديولوجية. فهناك تأويلات لغوية تلتزم بحرْفية النص وتلتصق بشكل الرسالة فلا تفعل سوى أن تعيد صياغة النص كما هو، وهذا هو التأويل السطحي الذي يعتمد على الحساسية (ملكة الحس). أما التأويل العُمقي فينزل إلى أعماق النص بحثاً عن المعاني، ولكنه، إذْ ينفصل عن شكل النص اللغوي، يتوه، فتصبح المخيلة (ملكة الوهم) نشطة وتكتب نصاً ثانياً ليست له علاقة بالنص الأصل. وهناك بين بين، وهي التأويلات التي تعتمد على الفاهمة (ملكة العقل) بشكل يبعدها عن الطرف الحشوي والطرف الغنوصي؛ وهذه هي التأويلات العقلية (البلاغية، والبرهانية، والعلمية، إلخ). ولكنّ التأويل ذاته لا غبار عليه؛ فهو جهد فكري له قيمته النسبية. وسواء أسلمنا مع من يرى أن التأويل الموضوعي ممكن أو مع من يرى أنه مفتوح بصورة لا نهائية، فإن التأويل يصبح أمراً إشكالياً عندما يخرج من دائرة الخطاب العلمي إلى ساحة الممارسة السياسية.
الديني ليس سوى تأويل بشري، وهو قابل للنقد والتفكيك والرفض.
ثانياً- الخطاب الديني من التنوير إلى التكفير:
في مطلع القرن التاسع عشر، وبعد أن أفاق العالم العربي والإسلامي من صدمة الاستعمار الغربي، أصبحت هناك رغبة قوية في التعرف على هذا الآخر/ العدو. كانت إرادة القوة تثوي خلف إرادة المعرفة؛ فقد تأكد للشرقيين أن الغرب تفوق بسبب علمه، لا بسبب شجاعته أو عدده. فبادر محمد علي باشا؛ والي مصر، بإرسال البعثات إلى الغرب ليتعلم أبناء مصر والمسلمين علومَ الغربِ.
وهناك حدثت صدمة حضارية ألقَت بظلالها على مؤلفات الأدباء والعلماء الأوائل؛ مثل رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين التونسي. بعد الجيل المندهش، ظهر الجيل المتسائل مع جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، وعبدالرحمن الكواكبي، وعبدالعزيز الثعالبي. وأصبحت طبيعة العلاقة بين الأنا الحضارية الإسلامية والآخر الغربي واضحة. فثمة غربي مستعمِر، ولكن ثمة الغربي العالم والفيلسوف والمتنور. وتبنى هؤلاء كثيراً من الأفكار التي وجدوها لدى الآخر الغربي كالديمقراطية والمساواة والحرية والاستقلال السياسي والعلمانية. ولكنهم كانوا يقظين ضد مكر المستعمر، وخاضوا صراعات وسجالات حادة دفاعاً عن هويتهم الإسلامية (مثلاً، حوار الأفغاني وعبده مع رينان وهانوتو).
ورغم حدة السجال؛ فإنهم لم يقطعوا مع الغرب وبحثوا في سبل تطوره فوجدوها في العلم والعقل والتسامح، وانتهى بهم السجال والتدبر إلى تقديم مدونات فلسفية وسياسية واقتصادية عظيمة. ويرى جمال الدين الأفغاني أن معضلات العالم الإسلامي تكون من خلال إنشاء مؤسسات سياسية وعلمية على النمط الأوربي[2]، ويرى أن “حياة الشرقيين تكون بالعلم الصحيح”[3]، ويشاركه محمد عبده الذي كان يرمي إلى “إنعاش آماله في شفاء العالم الإسلامي” من خلال الاتصال بالعلم والفكر الغربيين[4]، وأما عبدالرحمن الكواكبي فيرى أن الأصالة لا تتعارض مع الاتصال بالآخر والتفاعل معه[5]، والنموذج الغربي عنده يعد نموذجاً تحريضياً، حسب عبارة أدونيس. وهؤلاء المفكرون، رغم رفضهم القاطع للاستعمار الغربي، كانوا على وعي بأهمية علم الغرب.
وهذا الجيل اليقظ المتسائل يعد بحق جيلَ التنوير. ومثلما كان مارتن لوثر، رجل الدين، سبباً في التنوير الغربي (مع أسبابٍ أخرى)، فإن الأفغاني وعبده ورفاقهما، وهم علماء دين، هم رواد التنوير العربي والإسلامي. ويرى ألبرت حوراني أن الأفغاني كان يهيئ نفسه ليكون مارتن لوثر الإسلام[6]، ولعل محمد عبده أيضاً تاقت نفسه لهذا الدور، ولكن هشام شرابي يرفض ذلك قائلاً “ليس هناك أبعد عن الحقيقة من هذه المفارقة”[7]؛ إذ لم تكن دعوة محمد عبده من أجل إعادة صياغة للعقيدة بل للعودة إلى الإسلام الصحيح، ومن ثم فهم يشابهون التوماوميين الجدد وليس اللوثريين. يرى شرابي أن محمد عبده لم يكن مجدداً بل كان سلفياً يهدف إلى العودة للمنابع. وهذا كلام غير دقيق؛ فابن تيمية وابن عبدالوهاب وغيرهما كانوا يرمون إلى الغاية ذاتها، ومع ذلك فهم يسيرون في طرائق قدد وسبل شتى. وشتان بين دعوة محمد بن عبدالوهاب ودعوة محمد عبده. وعلى كل حال، فلسنا، والحال هذا، ملزمين برأي هشام شرابي، بل بما كان يعتقده الأفغاني في نفسه، وما كان يعتقده محمد عبده في نفسه[8].
كان هذا الجيل يعرف خصومه بوضوح، ويعرف أيضاً أصدقاءه ومَن له معهم مصلحة يفيد بها أمته. ولا جرم، فهم -في جلتهم- علماء وفلاسفة وأدباء. هذا الجيل اندثر، وأخلى مكانه لفكرٍ ديني مأزوم ابتعد عن طريق الحضارة وسلك طريق الأيديولوجيا الحركية والعنف. ولا غرابة لو قلنا إن رواد هذا الفكر الحركي ليس فيهم علماء ولا فلاسفة ولا أدباء إلا نادراً ويغلب عليهم الجهل والأمية، وأفضلهم حالاً لا يقف نداً لأحد من رجال التنوير الأوائل.
ظهر الفكر الديني الحركي مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا في عشرينيات القرن العشرين. وبدءاً من هذه اللحظة، أخذ الإسلام الحضاري يترك الفضاء العام تدريجياً للإسلام الأيديولوجي. ويصح القول إن الإسلام الأيديولوجي صار المتسيد في النصف الثاني من القرن العشرين، وترافق ظهوره مع ظهور تيارات أيديولوجية مشابهة كالفكر الاشتراكي والقومي. والتشابه بين التيار الحركي الإسلامي والتيار اليساري عموماً يتجلى، ليس في المضمون؛ بل في الوسائل والآليات التي يتوسل بها كل فريق في فرض سيطرته على الوعي الشعبي العربي.
لقد قطع الإسلام الحركي مع الإسلام التنويري بشكلٍ جوهري. فعلى سبيل المثال، التنوير الإسلامي لم يكن يؤمن بالحكومة الدينية: فمحمد عبده يؤكد أن ليس في الإسلام حاكم ديني، “بل هو حاكم مدني من جميع الوجوه”[9]، وكذلك الكواكبي الذي يقول “إن الأمم الحية ما أخذوا بالترقي إلا بعد عزلهم شؤون الدين عن شؤون الحياة، وجعلهم الدينَ أمراً وجدانياً محضاً”[10]. أما الإسلام الحركي فظهر بمفهوم مغاير تماماً وهو (الحاكمية). فبعد إذ كان المتنورون الإسلاميون يؤمنون بالنظام السياسي الديمقراطي أو شبه الديمقراطي، فإن الحركيين بدءاً من حسن البنا حتى الوقت الحاضر يخلطون بين الدين والسياسة خلطاً صريحاً. ففي رسائله، يقول البنا إن سياستنا هي ديننا[11]. ويعد أبو الأعلى المودودي من أوائل من أذاع فكرة الحاكمية. ويقول هذا الرجل بشكل واضح “السلطة المطلقة لله” ويرفض فكرة الفصل بين السلطات الثلاث؛ فالنبي كان “شارعاً وقاضياً وحاكماً” و”إن لا علاقة للإسلام بالديمقراطية”[12]. وتابعه في ذلك المفكر الإخواني الشهير سيد قطب، ومن تأثر به. ففي كتبه يكرر دوماً أن دعوتهم هي نقل الناس من حاكمية البشر إلى حاكمية الله[13]. بل إنه في كتاب العدالة الاجتماعية يجعل الحاكميةَ “أول خصائص الألوهية”[14]. ويصر قطب على تميز المشروع الإسلامي بقوله “لم أستسغ حديث مَن يتحدثون عن اشتراكية الإسلام أو ديمقراطية الإسلام… وما إلى ذلك من الخلط بين نظام من صنع الله وأنظمة من صنع البشر”[15].
بعد الاعتقالات والاغتيالات التي تعرض إليها رموز الإخوان في عهد جمال عبدالناصر، صار الإسلام الحركي أكثر ميلاً للعنف. ونشأت منظمات جهادية وتفجيرية. ورغم زوال حكم عبدالناصر والسادات؛ فإن الخطاب الإعلامي الديني لا يزال يحمل في أطوائه عنفاً رمزياً وفعلياً واضحاً.
صحيح أن الفكر الإخواني القطبي سيطر على الخطاب الديني السُّني؛ لكنه بدأ يشهد منافسة من قِبل الفكر السلفي. ودار بين الفكرَين صراع خفي حيناً وجلي أحياناً، واشتد الصراع مع ظهور ثورات الربيع العربي، ولا يزال. لكن سوف نركز على الخطاب الإخواني؛ لأن السلفي ليست له أجندة سياسية، وليست له مطامع للهيمنة على الفضاء السياسي العام، بل يكتفي بالولاء والطاعة للحاكم الموجود. والسلفيون عموماً يرفضون كل وسائل التقنية الحديثة[16]، وانخراطهم في المشهد الإعلامي ليس سوى الحل الأخير لمقاومة المد الإخواني (ويسمى في السعودية بالصحوي).
ثالثاً- أبرز ملامح الخطاب الديني الحركي:
سوف نركز في مقالنا هذا على الفكر الحركي؛ لأنه تقريباً الخطاب الذي سيطر على الوعي الشعبي العربي منذ عقود طويلة. وهنا بعض الملامح:
1- هو خطاب أيديولوجي لا معرفي: ونقصد بكلمة “أيديولوجي” كل فكر أو مذهب يرمي إلى استغلال المعرفة (سواء دينية أو علمية أو فلسفية) استغلالاً سياسياً متحيزاً. بعبارة أخرى: هو كل مذهب يقوم بتحويل المعرفة إلى أجندة سياسية هدفها السيطرة على الواقع الاجتماعي. والخطاب الديني الحركي أيديولوجي؛ لأنه استغل الدين والأفكار العلمية لصالحه بشكل غير موضوعي؛ بحيث يرفض بعض النظريات العلمية أو التأويلات الدينية ويقبل بعضها بناءً على التوجهات السياسية العريضة له.
وما يميز أي خطاب أيديولوجي؛ سواء أكان دينياً أو قومياً أو اشتراكياً أو نحو ذلك، هو السعي الحثيث إلى الفعل والتغيير ونبذ التنظير في مقابل الممارسة (البراكسس). ويشتهر عن ماركس قوله “كان الفلاسفة يقومون بتأويل العالم، لكن الأهم على كل حال هو تغييره”[17]. ومن المفارقات أن لسيد قطب أقاويل شبيهة بهذا القول. فهذا الرجل حريص كل الحرص على إبراز أهمية الممارسة والفعل وعلى احتقار التنظير. فيقول مثلاً “إن محاولة إلغاء الجاهلية ورد الناس لله لا يجوز أن تتمثل في نظرية مجردة، بل لا بد أن تتمثل في تجمع حركي أقوى من ذلك المجتمع الجاهلي القائم فعلاً”[18]. وهكذا فهذا الفهم الحركي للدين يضيق بالتنظير وبالمعرفة الخالصة ويركز كل جهده على الممارسة التي يعبر عنها الإسلام في فريضة الجهاد، “فحركية الدين تتجلى في الجهاد”[19].
هذا الخطاب بوصفه حركياً أيديولوجياً يتنافى مع المعرفة. صحيح أن كثيراً من الفلاسفة المعاصرين يرون أنه من الخطأ افتراض وجود استقلال للمعرفة عن القوة أو السلطة[20]؛ لكنها في الخطاب الأيديولوجي تكون مباشرة وفجة ومقصودة. وكل كلمة في خطاب كهذا ليست مجرد وصف معرفي أو تحليل منطقي؛ بل هي أوامر وتوجيهات لمتلقي الخطاب. فعندما يقول داعية حركي إننا نعيش في وهدة الذل ووطأة الاستغلال وأن الجهاد هو الحل، فإنه بهذا يمارس فعلاً من أفعال الكلام بشكل غير مباشر: خُذ سلاحك وقاتل!
هذا الخطاب ينهض على عقلانية تقنية- أداتية، إذا جاز لنا استعمال مصطلحات مدرسة فرانكفورت. أي، هو خطاب يتعامل مع المتلقي سواء أكان تابعاً أم خصماً على أنه موضوع أو هدف للسيطرة والاستحواذ. فالمراد من إنشاء خطاب كهذا هو احتلال عقل المسلم، وبعد ذلك استعماله كأداة أو كحطب للصراع الأيديولوجي المتقد. فالمسلمون الذين يوجه إليهم الفكر الإخواني والجهادي خطابَه ليسوا سوى عبوات مفخخة وجاهزة في نظرهم، ومن ثمَّ فكانوا حريصين دائماً على إبطال الحس النقدي لدى المتلقي من خلال آليات خطابية وحيل بلاغية سنتطرق إليها لاحقاً.
العقلانية المضادة للعقلانية الأداتية، هي العقلانية التواصلية والعقلانية النقدية. وهدف الأولى هو الفهم والتعايش المشترك، والثانية هو تحرير الوعي من الزيف[21]. وهذا ما لا يريده الفكر الأيديولوجي قاطبة؛ فليس أضر لمشروعهم من وجود أشخاص ذوي عقلية نقدية ومتحررة.
2- كل خطاب أيديولوجي هو خطاب مثالي لا نقدي. فالبشر بالنسبة إليه ليسوا سوى حالات ممكنة؛ كوادر ومقاتلين وأتباع مستعدين للموت من أجل المبادئ التي ينشرها الخطاب. لذا فهو خطاب لا ينطلق من الواقع الحقيقي للبشر بل يتصور واقعاً ثم يقهر الناسَ من خلال آلياته البلاغية لكي يتقولبوا داخله؛ أي لكي يهضموا مبادئه فتتسرب إلى وعيهم الباطن فتكون بمثابة طبيعة ثانية. هذه آلية التعبئة الشعبية.
مفهوم الممارسة لدى هذا الخطاب هي بالتالي كل محاولة لإلغاء الواقع وإحلال واقع آخر مكانه؛ أي تحويل الفعلي إلى ممكن. ولكن هل هو ممكن؟ هل يمكن لفكر مثالي، غير تاريخي، أن يقبل التحقق؟! هذا ما يؤرق هذا الخطاب.
فها هو حسن البنا يتكلم عن إيمان حقيقي هو إيمان الإخوان وإيمان آخر هو إيمان العوام[22]. ويتابعه سيد قطب عندما يصف الإخوان بأنهم المسلمون الحقيقيون، وأن بقية المسلمين جاهليون. وهذا تكفير عام ومجاني. فالمجتمع الذي يعيش فيه، وهو ليس فقط مجتمع مصر بل كل البلدان الإسلامية هو “مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله”[23].
ويقول في كلام خطير “هذا ما ينبغي أن يكون واضحاً.. إن الناس ليسوا مسلمين -كما يدعون- وهم يحيون حياة الجاهلية. وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك. ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئاً. ليس هذا إسلاماً وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد”[24].
هذا الاصطدام مع الواقع ناجم عن مثاليةِ ولا تاريخية الخطاب الإسلامي الحركي. ومن هنا يشعر رواد هذا الخطاب بأنهم منبوذون، وأنهم يعانون ما عاناه الأنبياء والرسل من نبذ وهجر وظلم. ويكرر قطب مقولة “إننا نحن من يقدم الإسلام للناس”، و”إننا نحن القلائل المنتسبون للإسلام”[25]. ومن الجليّ هنا أن الحاكمية التي يدعو إليها الإسلامويون ليست الحاكمية لله بل الحاكمية لهم بوصفهم أنبياءَ هذا العصر! وكل أيديولوجي يرى في نفسه هذا الرأي؛ فهو نبي أو حواري أو مناضل أو مجاهد هجر الدنيا واعتزل الملذات وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
2- خطاب كوني لا محلي. الخطاب الأيديولوجي عموماً يدّعي الكونية universality وأنه ليس خاصاً بفريق أو بعرق؛ بل يبتغي إنقاذ البشرية جمعاء، ولا يشذ عن تلك الخاصية سوى الأيديولوجيات الفاشية والقومية.
الإخوان المسلمون يزعمون أنهم يواصلون مهمة النبي وهي هداية الناس جميعاً. يقول قطب “البشرية الحائرة المسكينة… لن تجد السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير”[26] وبلغ به الأمر أن قال: “لقد كان تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثاً هائلاً في تاريخها ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيراً في كل ما ألم بها من نكبات”[27].
وما يجعل قولاً كهذا أمراً عجيباً هو أن الإسلام الذي يقصده ليس له معنى سوى إسلامه هو وجماعته “القلائل”. وسيد قطب هنا يستعيد ما قاله أبو الحسن الندوي قبله ببضع سنين في كتابه الشهير «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» عام 1944م، والذي قدّم له سيد قطب نفسه في طبعاتٍ لاحقة. يقول الندوي “لم يكن انحطاط المسلمين… حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ… ولكن هذا الحادث كان غريباً لا مثيل له في التاريخ. ولم يكن هذا الحادث يخص العرب وحدهم، ولا يخص الشعوب والأمم التي دانت بالإسلام.. بل هي مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعسَ منها ولا أهم منها”[28]. وكان زعيمهم حسن البنا يؤكد أن إسلامهم ليس خاضعاً لحدود الوطنية ولا القومية؛ بل إنه عالمي، وأن خطابهم موجه للناس جميعاً، كما بث في رسائله وكتبه.
4- خطاب سلبي لا إيجابي. وهو عموماً نشأ كردة فعل حادة على انتشار الفكر الدخيل. ولا جرم أن نرى أن خطاباً كهذا يؤكد مبادئه في تقابل مضاد مع مبادئ خصومه الرأسماليين والشيوعيين والقوميين. فمحمد قطب، أخو سيد، لم يجد طريقة مثلى لعرض آرائهم الفكرية والسياسية إلا من خلال مقارنتها بالآراء المناقضة من ديمقراطية وشيوعية وعلمانية وقومية وإنسانية!
وكان هذا هو الحال مع جميع رواد الإسلام الحركي؛ كأنور الجندي، والمودودي، والقرضاوي، وسفر الحوالي.. وغيرهم. ومن ثم فليس غريباً أن نجد تناقضات عجيبة لديهم. فعندما يتحدث الإسلاموي عن الرأسمالية ينتقد اهتمامها بالفرد على حساب الجماعة، وعندما يتحدث عن الشيوعية ينتقد اهتمامها بالجماعة على حساب الفرد. فلا تدري حينها ماذا يريد الإسلاموي؟! أهو مع الجماعة أم مع الفرد؟
وقلْ مثل ذلك في كل جوانب هذا الخطاب المبعثر. قد يقول قائل منهم: بل نحن أمة وسط. وهذه مجرد حيلة بلاغية. فالجميع يدعي الوسطية والاعتدال والتوازن، وليس هناك “وسط” و”أطراف” إلا بالنسبة لمنشئ الخطاب. فالوسطية أمر نسبي.
5- لغة الخطاب الديني الحركي، كأي خطاب أيديولوجي، هي لغة حادة وتعتمد على الإقصاء. فليس ثمة بين بين؛ بل هناك فسطاطان دائماً: المؤمنون والكافرون. شيوعياً، هناك البرجوازي والرأسمالي الجشع، وإسلامياً، هناك الكافر والجاهلي. هناك الملحدون وهناك المنحرفون. هناك المرتدون وهناك الخونة. وتركيزي على المقارنة بين الإسلاموية والشيوعية؛ لأنهما أهم تيارين شموليين سيطرا على الفكر العربي: فالنضال يقابله الجهاد، والرفيق يقابله الأخ، والزعيم يقابله الشيخ. وكل فريق لديه آلاف مؤلفة من الاستشهاديين الجاهزين.
أما في الوضع الإعلامي المعاصر؛ فالقنوات والوسائل الإعلامية التي يسيطر عليها الفكر الديني لا تعدو أن تكون مرتعاً للشتائم والعداوات ونشر البغضاء بين الناس.
إن حدة الخطاب الديني المعاصر تعبر عن وضعية سيكولوجية مأزومة ومنهارة.. وهي، بسبب مثاليتها، تعاني كثيراً من صلابة الواقع المعيش واستعصائه على القولبة. والنتيجة هي الصدام الحاد. والإرهاب الفعلي المباشر ليس سوى التعبير الأخير عن الهزيمة أمام الواقع المعيش.
6- الخصم الرئيسي للخطاب الديني الحركي لم يعد الغرب ولا المستعمر كما كان الحال في الخطاب الديني التنويري، بل صار المجتمع المسلم ذاته هو الخصم. وقد أعجب سيد قطب بكلمة (جاهلية) التي استخدمها أبو الحسن الندوي في كتابه سالف الذكر. يقول في مقدمته للكتاب: “ولعله مما يلفت النظر تعبير المؤلف دائماً عن النكسة التي حاقت بالبشرية كلها منذ أن عجز المسلمون عن القيادة بكلمة (الجاهلية)”[29]. وسوف تعلق هذه الكلمة في ذهن قطب وأخيه ومن تلاهما من كتّاب.
ولكن يجب القول إن حسن البنا كان قد استخدم الكلمة نفسها قديماً، ولكن في سياق مختلف، فيعتبر أن القومية العربية هي جاهلية من مبدأ “إنك امرؤ فيك جاهلية”، لكن سيد قطب استعملها بالمعنى الوارد في الآية القرآنية “أفحكم الجاهلية يبغون”، وهو منسجم مع إعجاز الآيات التالية “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”، و”ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون”، و”ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون”.
وقد بين الإسلاميون العصرانيون؛ مثل محمد شحرور، كيف أن الحركيين تلاعبوا بالآيات من خلال تجاهل صدورها والسياق الذي وردت فيه؛ فالأوليان كانتا عن اليهود، والثالثة عن النصارى، وليس هنا مجال لجعلها دستوراً أبدياً. والحكم كان حكماً في الأحوال القانونية والشخصية، وليست فيه أية إشارة للحكم بالمعنى السياسي[30].
إن الخطاب الديني الحركي لا يثق في العوام ولكن يعتد بهم إلا إذا أراد منهم أن يكونوا حطباً لناره التي يبتغي إضرامها في العالم كله! ولعل هذا يفسر لماذا كانت أغلب العمليات الإرهابية تتم في المجتمعات الإسلامية، بل إن المساجد والجوامع لم تسلم من إرهابهم.
رابعاً- آليات الخطاب الديني في تشكيل صورة الأنا:
عرفنا في القسم الأول من هذا البحث أن ثمة فرقاً بين الأنا بوصفها كينونة فعلية، وصورة الأنا بوصفها ثيمة معرفية تشكلت في غضون الخطاب الديني المعاصر. وعرفنا كذلك أن الخطاب الديني بما أنه خطاب مثالي أيديولوجي معياري غير تاريخي لا ينطلق مع شروط الواقع لكي يبني عليها، بل من تصورات وتخيلات مؤسسي هذا الخطاب.
ومن هذا الأساس، فإن الخطاب يسعى بشكل حثيث لكي يستقطب ويجند أكبر عدد ممكن من الناس “الذين يرغبون في أن يسموا مسلمين” حسب عبارة سيد قطب. هذا العدد كلما كان ضخماً كان المشروع أكثر نجاحاً. التعبئة والتجنيد هما أهم استراتيجيات كل خطاب أيديولوجي، وهكذا كان الأمر مع الخطاب الإسلاموي. يقول يوسف القرضاوي شعراً: “هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح* من كل ألفٍ واحداً أغزو بهم في كل ساح”. ولأجل ذلك، قام هذا الخطاب بصياغة صورة للأنا الإسلامية تنسجم مع أجندتهم السياسية الرامية إلى السيطرة على العالم الإسلامي والعالم ككل. ومن هذه الآليات ما يلي:
1- الترهيب:
زرع الخوف بين الناس وجعلهم مرعوبين متربصين ضعفاء، من أهم الآليات التي استثمرها الخطاب الديني عبر وسائل الإعلام، سواء الصحف أو التلفاز أو الإنترنت. وأهم الحيل البلاغية التي توسل بها الخطاب الديني هنا هي تسويق نظرية المؤامرة. المؤامرة بديل مجازي للواقع المحكي، وهي سرد مختلف لما حدث. كل امرئ خضع لمؤثرات هذا الخطاب لا بد أن يكون مؤمناً بنظرية المؤامرة. والفكرة بسيطة: نحن أمة الإسلام أمة محسودة؛ لأننا متمسكون بديننا، ولأننا البقية الصالحة وكل العالم يقف ضدنا ويحاول استدراجنا لكي نتهافت، مثله، على الحياة المادية وعلى الملذات والإباحية. المرأة المسلمة محسودة من قبل المرأة الغربية؛ لأنها حبيسة المنزل ولأنها مطيعة لزوجها وبارة به وخاضعة لربه. نحن المسلمون لا نؤمن بهراء الديمقراطية، فحسبنا الشورى وهي منهج رباني، وحسبنا أن نطيع الله لا البشر وهذا مذهب إلهي.
يتم النفخ في صورة الأنا، التي يسهم الإعلام الديني في جعلها حقيقة فعلية، ولتفسير انتكاسة المسلمين لا مفر من الإيمان بأن مؤامرة عالمية (ماسونية أو صهيونية أو صليبية) تقف حجر عثرة في سبيل نهضتنا الروحية.
مع تأزم الواقع العربي؛ خصوصاً في ما يتعلق بقضية فلسطين، وما تلاها من تدهور لبلدان كالعراق وسوريا ولبنان وليبيا، انتعشت نظرية المؤامرة مرة أخرى. وفي كل حالة يأس، تنتعش هذه النظرية لكي ترفع الملامَ ولو قليلاً عن الواقع العربي المزري. ورغم حقيقة وقائع كالاستعمار قديماً والاستيطان الصهيوني حديثاً؛ فإن واقعنا الفعلي مهَّد الأرض للخضوع والذل، فليس للخصوم المبادئ الأخلاقية والعقدية التي لنا لكي نحاكمهم بها.
لقد استطاع الخطاب الديني أن يصوغ صورة للأنا مهزومة ومهزوزة وساخطة. فكل البشر من حوله يتربصون به الدوائر ويتآمرون على دينه ووطنه. ولن يجد امرؤ هذا حاله بداً من الارتماء في أحضان الخطاب الذي يزعم أنه هو الحل.
وبالعودة إلى المقارنة بين الفكر الإسلاموي والفكر الشيوعي، فإن هذين يتفقان تماماً في هذا الجانب؛ أي استغلال مشاعر الناس عبر نشر المؤامرات. ففي الموسوعة الفلسفية التي كتبها جماعة من الأساتذة السوفييت، ثمة اعتقاد شائع بأن الغرب (الرأسمالي) ترك كل شيء من يديه، وانهمك في التآمر ضد الشرق عموماً، وضد السوفييت خصوصاً. بل إن فلاسفة الغرب الذين يفترض أن يكونوا أكثر الناس عدلاً وموضوعية كانوا يضمرون ولاءهم للمثالية، ويعلنون خصومتهم للمادية!
هذه الموسوعة تتعامل مع المثالية والمادية كدينَين متصارعين[31]. لقد كان ديكارت وهيوم ولوك وكانط وهيجل وفخته يتآمرون بوعي وبقصد لتدمير الفكر المادي! وهكذا يفكر كل أيديولوجي مهما كانت ملته.
2- الترغيب:
يراهن الخطاب الإعلامي الديني الحركي على نوعين من الجنة: جنة الدنيا، وجنة الآخرة. جنة الآخرة معروفة وهي، بالنسبة إليهم، مكان فسيح لإشباع كل الملذات المحللة والمحرمة. وكثيراً ما تم خداع الشباب بهذه الرغائب الليبيدية الهوجاء. ومن ثم، فلا عجب أن الخطاب الحركي يتحاشى دعوة الراشدين والمتزوجين، ويركز على المراهقين العزاب. ولا تخلو قناة إعلامية دينية من مشاهد جنسية وأوصاف حسية لما تمتلئ به الجنة لمَن مات في سبيل الله.
أما جنة الدنيا فهي النصر. وما يتبع النصر ليس سوى الغلبة والسبي. فسبي النساء وجعلهن جواري وإماء كما كان العصر الإسلامي القديم حلمٌ لا يفارق ذهن كل إسلاموي. فالنصر في الدنيا، عبر الجهاد، يعني احتلال بلدان الكفر ونهب قصورهم وسبي نسائهم وأولادهم. وبلدان الكفر في الغالب ليست كافرة بل إسلامية!
3- التهويل:
التهويل يتأتى بالكذب والتزييف والتحيز. وهو عبارة عن نشاط إعلامي يقوم بعزل حادثة معينة عن واقعها الفعلي أو سياقها التاريخي فيجعلها شيئاً عظيماً. على سبيل المثال، النفخ في سيرة عمر بن عبد العزيز حتى لكأنه أعدل حاكم على وجه الأرض، أو التهويل بشأن صلاح الدين، أو اختلاق أساطير حول علماء دين بارزين كابن باز، وابن عثيمين، وحسن البنا، وسيد قطب.
أما أشنع أنماط التهويل فهي ادعاؤهم أن الغرب قد سقط (وليس وحسب أنه آيل للسقوط). وقد قرأت ذات مرة من أحد التهويليين أن فرنسا أصبحت بلداً إسلامياً بسبب غلبة السكان المسلمين على النصارى! وهذا التزييف معتاد لديهم. ويسود خصوصاً في ما يتعلق بأحوال القتال والكرامات التي تحصل للمجاهدين.
عندما كتب شبنجلر كتابه «تدهور الغرب»، تهافت عليه الإسلاميون الحركيون بشكل عجيب حتى لكأنه نص مقدس. وهذا يصدق على مواقفهم تجاه توماس كارليل وغيره من الغربيين الذي أثنوا على الإسلام (= رغم أنهم وقتها أثنوا على المسيحية والبوذية، وغيرها).
ومن آليات التهويل نشر الأكاذيب بشأن تحول البشرية إلى الإسلام، وتحول اللاعب الشهير إلى الإسلام، وتحول الفنانة المعروفة إلى الإسلام. إن قليلاً من هذه الشائعات صحيح، لكن من الصحيح أيضاً أن آلافاً من المشاهير تحولوا إلى أديان أخرى؛ ولا سيما البوذية. ولكنّ البوذيين لم يهولوا الموضوع كما فعل الحركيون.
من ضمن التهاويل، التركيز على موضوع قرب يوم الحساب. ولو أحصينا الكتب والمنشورات التي تتعلق بعلامات الساعة فلن تصدق أعيننا! أجل، فرغم أن النبي ذكر أن لا علم له بالساعة و”إنما علمها عند الله”؛ فإن هؤلاء الحركيين كانوا أكثر يقيناً من النبي بخصوص موضوع الساعة. وحسبهم بهذه الأكذوبة أن يستولوا على قلوب المسلمين.
4- الإعجاز العلمي في القرآن:
وهذه الآلية متفرعة عن السابقة. من المقرر أن الوضع العلمي في الشرق الإسلامي لم يستطع أن يصل إلى المستوى الذي وصل إليه الغرب. ولما وجد الخطاب الديني الحركي أن المسلمين منبهرون جداً بمنجزات الغرب العلمية لم يجد مفراً سوى التلاعب بالحقائق من خلال بعض الادعاءات مثل: الغرب نهب تراث الإسلام والعرب، وأنها بضاعتنا ردت إلينا. ومن ضمن الادعاءات أن في القرآن بذوراً لكل الكشوفات العلمية التي يطنطن بها الغربيون!
ومن هنا نفهم احتفاء الحركيين الكبير بكتبٍ غربية مثل (شمس الله تسطع على الغرب) لسيغريد هونكه، و(الأبطال) لتوماس كارليل، و(الخالدون المئة) لمايكل هارت.. وغيرها من كتب. وتجد أنهم يكررون مقولات لأعلام غربيين عن النبي أو عن الإسلام. وينقل أنور الجندي شواهد كثيرة تنص على أن ما لدى الغرب من معارف له سابقة في التراث الإسلامي[32].
وجهود زغلول النجار، وعبدالمجيد الزنداني، وذاكر نايك، هي استئناف للتفسير العلمي للقرآن الذي نشأ في مطلع القرن العشرين. وقد وقف رشيد رضا وأمين الخولي وغيرهما ضد هذا الضرب من التفسير؛ لأن القرآن كتاب ديني له رسالة روحية وأخلاقية، وليس لتقديم معلومات حول حقائق الوجود العلمية[33].
لقد كان مشروع الإعجاز العلمي في القرآن واحداً من أخطر الآليات التي استثمرها الحركيون بنجاح؛ لكي ينزعوا عن المسلم إعجابه بالغرب ويحوّلوه إلى القرآن، وبالتالي إليهم بوصفهم المتحدثين باسم القرآن. والحقيقة أن هذا المشروع، لأنه أيديولوجي وليس علمياً، لم ينجز شيئاً على الإطلاق؛ فرواده ينتظرون الكشوفات الجديدة التي يقوم بها الغربيون والأمريكان واليابانيون، لكي يبحثوا لها عن أصلٍ في القرآن.
5- هجاء الواقع الإسلامي:
الخطاب الحركي لا يؤمن بالواقع، ويؤمن أن ثمة واقعاً يمكن أن يحل محله. ومن ثم فهو خطاب مثالي كما قلنا. وكما قلنا أيضاً، فإن كان الاستعمار الغربي هو عدو الإسلام التنويري، فإن المجتمع المسلم هو عدو الإسلام الحركي. وحسبنا بهذا ما قام به الحركيون من تكفير للمسلمين وتسميتهم بالجاهليين. بل إن قطب يسميهم “أولئك الذين يظنون أنفسهم مسلمين” أو “أولئك الذين يحبون أن يكونوا مسلمين”[34]؛ ولكنّ هؤلاء الحركيين إذا ما أرادوا استنهاض الهمم، أخذوا في مدح المسلمين وأنهم “صخرة لمقاومة الاستعمار”[35]. وهكذا فإنهم جعلوا المسلمين يتأرجحون بين التكفير والتمجيد.
5- تدمير وتشويه الخصوم:
أي فكر معارض لهم، أو أي شخص مقاوم لضلالاتهم، فإنه سيكون في مرمى نيرانهم. هكذا حدث مع علي عبدالرازق، وطه حسين، ومحمود محمد طه، وعبدالله القصيمي، وعلي الوردي، وتركي الحمد، وغازي القصيبي.
يذكر الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه (حكاية الحداثة في السعودية) أن الصحويين (إخوان السعودية) كانوا يلعنونه على منابر الجمعة في مدينة جدة[36]، وأما تركي الحمد فقد لعنوه على كل منابر الجمعة في الخليج العربي. ولا يعزب عن الجميع ما حدث للقدماء كطه حسين، وعبدالرازق، وفرج فودة، ونصر حامد أبي زيد.
تشويه السمعة كان إحدى أهم آليات الخطاب الديني لصياغة نمط معين من الشخصية الإسلامية الخانعة والخائفة والمطيعة.
لقراءة الدراسة PDF: صورة الأنا في الخطاب الديني
المراجع
[1] كمثال على ذلك، قام مذيع قناة وصال السلفية، بطرد الباحث الإسلامي المعروف بنقده للسلفية، حسن المالكي، من الاستوديو.
[2] محمد كامل ضاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني، بيروت: دار البيروني ١٩٩٤، ص ١٥٦
[3] جمال الدين الأفغاني، خاطرات الأفغاني، آراء وأفكار، تحرير محمد المخزومي، الآثار الكاملة، مج ٦، القاهرة: مكتبة الشرق الدولية ٢٠٠٢، ص ١٢٤
[4] ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة كريم عزقول، بيروت: دار النهار، بدون تاريخ، ص ١٦٨
[5] نقلاً عن أدونيس، الثابت والمتحول، جزء ٣، بيروت: دار الساقي ٢٠٠٢، ص ١٣٤
[6] حوراني، مصدر سابق، ص ١٥٣
[7] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، ط٤، بيروت: دار النهار١٩٩١، ص ٣٨
[8] يذكر يوهانس جانسن أن محمد عبده “يدعو المسلم المعاصر إلى عدم جعل التفاسير القرآنية حاجزاً بينه وبين القرآن”. وهذا ما قام به لوثر حيث رفض أية وساطة بين المرء وربه. انظر: يوهانس جانسن، تفسير القرآن في مصر الحديثة، ترجمة حازم زكريا محيي الدين، الرباط وبيروت: مؤمنون بلا حدود ٢٠١٧، ص ١٣٩
[9] مقتبس من محمد كامل ضاهر، مصدر سابق، ص ١٨٢
[10] نفسه، ص ١٩٧
[11] رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، نسخة إلكترونية، ص ٢٢
[12] أبو الأعلى المودودي، حول تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، ترجمة خليل الحامدي، الرياض: مكتبة الرشد ١٩٨٣، صص ٢-٨
[13] سيد قطب، معالم في الطريق، ط٦، بيروت والقاهرة: دار الشروق، ١٩٧٩، ص ٤٦
[14] سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، بيروت والقاهرة: دار الشروق ١٩٩٥، ص ١٢
[15] نفسه، ص ٧٨
[16] إخوان بريدة السلفيين مثلاً يحرمون على أنفسهم كل وسائل الحياة العصرية من كهرباء وسيارات وهواتف وغير ذلك. لمزيد من الاطلاع، راجع: منصور النقيدان، إخوان بريدة: وهابيون متصوفون.
[17] The Marx-Engels Reader, ed. Robert Tucker, New York & London: W. W. Norton & Company 1978, p. 145
[18] سيد قطب، معالم في الطريق، ص ٤٨
[19] نفسه، ص ٥٦
[20] يكاد يجمع فلاسفة ما بعد الحداثة على الصلة الوثيقة بين المعرفة والحقيقة من جهة والسلطة من جهة أخرى. يقول فوكو مثلاً في حوار معه “الحقيقة لا تقع خارج السلطة ولا خالية من سلطة”. Michel Foucault, Power/Knowledge, ed. Colin Gordon, New York: Pantheon Books 1980, p. 131
[21] See, e.g., Darrow Schecter, The Critique of Instrumental Reason from Weber to Habermas, New York: Continuum 2010. وانظر كذلك، هابرماس: المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، ألمانيا: منشورات الجمل ٢٠٠١
[22] رسائل حسن البنا، ص٦
[23] سيد قطب، معالم في الطريق، ص ٤٥
[24] نفسه، ص ١٥٨
[25] نفسه، ص ٦٠ و٦١
[26] سيد قطب، في ظلال القرآن، الجزء الأول، القاهرة وبيروت: دار الشروق، ط٣٢، ٢٠٠٣، ص ١٥
[27] نفسه.
[28] أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، المنصورة: مكتبة الإيمان، طبعة منقحة ومحققة ومزيدة، بدون تاريخ، ص ٣١
[29] أبو الحسن الندوي، مقدمة سيد قطب، ص ١٢
[30] لقاء مع محمد شحرور على يوتيوب.
[31] جماعة من الأساتذة السوفييت، موجز في تاريخ الفلسفة، ترجمة توفيق سلوم، بيروت: الفارابي ١٩٨٩، ص ١١
[32] أنور الجندي، سقوط العلمانية، بيروت: دار الكتاب اللبناني، بدون تاريخ، ص ١٥٤
[33] يوهانس جانسن، صص ١١٧-١١٩
[34] سيد قطب، العدالة الاجتماعية، ص ١٨٣ و ١٨٤
[35] نفسه.
[36] عبد الله الغذامي، حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، بيروت والدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط٣، ٢٠٠٥، ص ٢٣٧