نقلا عن عين أوروبية على التطرف
في 21 يناير الماضي، أحرق السياسي الدنماركي راسموس بالودان، الذي يقود حزب “سترام كورس” اليميني المتطرف، نسخة من القرآن أمام السفارة التركية في ستوكهولم بالسويد، واعتبر ما قام به نوعًا من الاحتجاج على “الأسلمة” والهجرة. ورغم أن هذا العمل يأتي ضمن سلسلةٍ من الأحداث المماثلة، التي تستغل التوترات داخل السويد، فإنه يُعد الأكثر أهمية في تأثيره على العلاقات الدبلوماسية للسويد مع تركيا، في ظل سعي السويد للحصول على عضوية حلف الناتو.
تجدر الإشارة إلى أن بالودان قد سبق وهدَّد، في أبريل 2022، بحرق نسخةٍ من المصحف في مالمو، وهي بلدة مضطربة جنوب السويد ذات أغلبية من أصل أجنبي، في إطار “عدد” من الأحداث المماثلة. غير أن المسلمين الغاضبين منعوا بالودان بالقوة من تنفيذ مخططه، وتحوّل العنف إلى أعمال شغب في خمس مدن في جميع أنحاء السويد، بما في ذلك مالمو نفسها، وأوريبرو في الوسط الجنوبي، والعاصمة ستوكهولم، في الجنوب الشرقي. وقد أسفرت أعمال الشغب عن إصابة 399 شخصًا وتدمير عشرين مركبة. وحُكِم على 47 شخصًا حتى الآن لارتكابهم جرائم تتعلق بهذا العنف.
في معرض تعليقه في ذلك الوقت، شرح جابرييل سيوبلوم-فودور، الباحث في مكافحة التطرف العنيف في المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف، لموقع “عين أوروبية على التطرف”، الخلفية التاريخية المُعقّدة لهذا الحدث. أحد العوامل التي حددها سيوبلوم-فودور هو انتشار الأفكار الإسلاموية التي حلّت محل المفاهيم التقليدية للإسلام بأن “الرد -خاصة في الحالات التي يعيش فيها المسلمون كأقلية- هو الحفاظ على الهدوء في مواجهة الاستفزازات، وليس الرد عليها”.
الجدير بالذكر أن الآراء الإسلاموية فيما يتعلق بقضية “التجديف” تتعارض بشكلٍ حاد مع المبادئ السويدية المتعلقة بحرية التعبير، إضافة إلى وجود توترات تتعلق بالتطبيقات المحددة جدًا للتعددية الثقافية في السويد، منذ وصول المهاجرين المسلمين، على مدى السنوات العشرين الماضية.
من ناحيةٍ أخرى، اعتبر طاهر عباس، أستاذ دراسات التطرف في جامعة لايدن في هولندا، في إحدى ندوات موقع “عين أوروبية على التطرف” عبر الإنترنت أن القضية هنا تتعلق بمسألة ما إذا كان هذا يمثّل استفزازًا وليس ممارسةً لحرية التعبير. وشدّد عباس على أن جذور رد فعل المسلمين على حرق المصحف الشريف تكمن في “درجات الإقصاء والتهميش المرتفعة” التي يعانيها المسلمون في السويد، ما يجعلهم “عُرضة لهذا النوع من الانكشاف”. ويرى أن رد الفعل ليس على التجديف فقط ولكنه ردٌ أيضًا على “الضغوط التراكمية” المتمثلة في “الشعور بالإقصاء”، و”التطبيع المفرط للإسلاموفوبيا”، الذي يجري “تحت غطاء حرية التعبير”.
لقد غدا حرق المصاحف ورد الفعل العنيف- طريقة مفضلة لنشطاء اليمين المتطرف “لإثبات” صحة حجتهم من خلال إظهار رفض المجتمع المسلم ربما للمبدأ الرئيس للمجتمعات الغربية، أي حرية التعبير. من منظور إسلامي، القرآن هو كلمة الله الأبدية وتدنيسه يُعد إهانة خطيرة لإيمان المسلم. وعليه، طالب المسلمون في السويد الحكومة بتعديل القوانين الأساسية للسويد لحظر الإساءة إلى الدين، على اعتبار أن السخرية من الله ورسوله تقع خارج حدود حرية التعبير. لكن في السويد، كما هو الحال في بقية أوروبا، يُنظر إلى مثل هذا المطلب على أنه غير شرعي من قبل معظم السكان، الذين نشأوا في مجتمعات علمانية، حيث لا تستطيع الدولة فرض قيود على حرية التعبير لحماية مشاعر المؤمنين.
خلال الأحداث التي وقعت في العام الماضي، ردت حكومات الدول ذات الأغلبية المسلمة، ولا سيّما دول الخليج العربية بحدة على السويد. في هذه المرة، جاء رد الفعل الأبرز من تركيا، التي حاولت منع بالودان من حرق المصحف خارج سفارتها في السويد، وأبدت غضبها لعدم امتثال الحكومة السويدية. وفي هذا الصدد، قال إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس الإسلاموي التركي رجب طيب أردوغان “إن حرق نسخة من المصحف في ستوكهولم هو جريمة كراهية وضد الإنسانية بصورة واضحة… نحن ندين ما حدث بشدة. إن السماح بهذا الإجراء على الرغم من كل تحذيراتنا يشجّع جرائم الكراهية والإسلاموفوبيا. الهجوم على القيم المقدسة ليس حرية بل بربرية حديثة”. وتابعت وزارة الخارجية التركية ببيان قالت فيه إن “السماح بهذا العمل المعادي للإسلام، الذي يستهدف المسلمين، ويهين قيمنا المقدسة، تحت ستار حرية التعبير، أمر غير مقبول على الإطلاق”.
وهكذا، تجد الحكومة السويدية نفسها أمام اتجاهين متناقضين، الأول يطالب بحماية الرموز الدينية المقدسة للمسلمين واحترامها، والثاني يحث الحكومة على حماية الحق في حرية التعبير، حتى وإن كان ذلك على حساب الإساءة إلى الأديان ومشاعر الآخرين.
الدولة السويدية تعتبر ما جرى عملًا غير أخلاقي يجب استنكاره، ولكن ليس حظره قانونيًا. وقد ندّد رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون بذلك واصفًا إياه بأنه “عمل غير محترم للغاية”، بعد يوم من حرق نسخة من القرآن خلال مظاهرة في ستوكهولم، وأعرب عن “تعاطفه” مع المسلمين بعد موجة من الإدانات التي صدرت من العالم الإسلامي. وهذا يثير تساؤلًا عما إذا كان هذا التعاطف كافيًا لعلاج الموقف المسيء للمجتمع المسلم، وإهانة الرموز الإسلامية المقدسة.
في الواقع، يعمد مُحرّضون غربيون إلى تدنيس القرآن، ورسم رسوم كاريكاتورية تسخر من النبي محمد (ص) لأنهم متأكدون من رد الفعل الغاضب من المسلمين. وهذا يؤدّي من ناحية إلى حدوث مشاهد تعزّز السردية اليمينية المتطرفة بأن المسلمين معادون للقيم الليبرالية الغربية، ومن ناحيةٍ أخرى يُشعر المجتمع المسلم بمزيدٍ من الإقصاء والتهميش وعدم الحماية.
وتظل الأنظمة الغربية العلمانية أمام معادلة صعبة تتمثل في ضمان حماية الرموز الإسلامية المقدسة في مواجهة الحركات اليمينية المتطرفة المتنامية التي تستخدم مظلة حرية التعبير لمهاجمة المسلمين.