نقلا عن عين أوروبية على التطرف
استيقظ مخيم جنين بأكمله يوم الخميس الماضي، الموافق 26 يناير، على وقع مجزرة كبرى لم يشهدها من قبل إلا عندما تعرّض لاجتياحٍ في إطار عملية الدرع الواقي قبل أكثر من عقدين. نفّذ الجيش الإسرائيلي عمليةً عسكرية واسعة النطاق في المخيم استمرت أربع ساعات، وخلّفت 9 قتلى وعشرات الجرحى وأضرارًا في المباني والممتلكات.
في إفادات فلسطينيين، قال سكان ومسؤولون إن المخيم شهد “معركة حقيقية” نفّذها الجيش الإسرائيلي، استخدم خلالها الرصاص الحي والصواريخ والمسيّرات والمصفحات. ألحقت العملية العسكرية الإسرائيلية أضرارًا بالبنية التحتية للمخيم، ودمرت المباني والمركبات. من جانبها، اعتبرت السلطات الإسرائيلية أن العملية الكبرى ضد مخيم جنين جاءت لمنع عملية إرهابية كبرى ضد “تل أبيب” خطَّط لها أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي.
في اليوم التالي للهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين، وفيما يبدو أنه عمل انتقامي عنيف من الجانب الفلسطيني، قتل سبعة يهود وجرح ثلاثة في كنيس يهودي بالقدس، خلال قُدّاس السبت، وفي يوم ذكرى المحرقة. حيث تعرّض كنيس عطيرت أفراهام في حي النبي يعقوب لهجومٍ حوالي الساعة 20:15 من يوم 27 يناير من قِبل فلسطيني يبلغ من العمر 21 عامًا من الضفة الغربية يدعى خيري علقم، الذي بدأ بإطلاق الرصاص على المصلين في الخارج. قبل وصول علقم إلى الكنيس، أطلق النار وقتل امرأة مسنة في الشارع، ورجلًا يركب دراجة نارية. في أعقاب الهجوم، فرّ علقم إلى حي بيت حنينا القريب. كانت هناك بعض الشكاوى حول الوقت الذي استغرقته قوات الأمن الإسرائيلية للوصول إلى الكنيس، لكن قوات الأمن اكتشفت مكان علقم في غضون خمس دقائق. وقد قُتل لدى مقاومة اعتقاله. وأعلنت الشرطة في وقتٍ سابق اعتقال 42 شخصًا.
زار نتنياهو موقع الهجوم، حيث تجمعت الحشود، وهم يهتفون “الموت للعرب”. وفي هذا السياق، جددت الشرطة الإسرائيلية دعوتها لمن يحمل تصاريح حمل سلاحهم معهم، فيما اعتبر وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير أنه يجب حصول المزيد من الإسرائيليين على تصاريح لحمل السلاح. من ناحيةٍ أخرى، أشادت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين التي تسيطر على غزة، بالهجوم باعتباره “ردًّا” على غارة إسرائيلية لمكافحة الإرهاب في جنين قبل يومين.
إن الأحداث الأخيرة تشير إلى أننا أمام عنفٍ وتصعيد متبادل بين جانبين كلاهما أضحى يعتمد الخطاب المتطرف والعنف لتحقيق أهدافه. فمن جهة توجد حكومة يمينية في إسرائيل، يعتمد عدد من أعضائها على خطاب التطرف والكراهية والعنف، ومن جهةٍ أخرى توجد الفصائل الفلسطينية الإسلامية المتطرفة، والتي ترد هي الأخرى على هذا الخطاب بعنفٍ وتصعيد. هذا التصعيد المتبادل يؤجج الوضع، ولا يخدم عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إن الخطاب المتطرف لبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية، والتدخل العنيف الإسرائيلي في مخيم جنين، أدى إلى تصعيدٍ وعنف مواز من طرف بعض الفصائل الفلسطينية المتطرفة، ومحاولة للانتقام من خلال الهجوم على الكنيس في مدينة القدس. وبالتالي فنحن أمام عنفٍ في مواجهة عنفٍ آخر، واستمرار لإراقة الدماء وحصد الأرواح من الجانبين.
الجدير بالذكر أن الهجمات الأخيرة تُعد الأعنف منذ الانتفاضة الثانية. وتأتي هذه الموجة المتصاعدة من العنف في وقتٍ تموج فيه الساحتان الإسرائيلية والفلسطينية بتغييراتٍ سياسية. ورغم أن لدى السلطة الفلسطينية بعض مقومات الدولة، لكنها في الحقيقة ليست كذلك بالمعنى الكامل للدولة والاستقلال. علاوة على ذلك، فإن الحكومة اليمينية المتطرفة غير المسبوقة في إسرائيل تجعل من الصعب استئناف عملية بناء السلام مع الفلسطينيين، كما أن ذلك سيواجه لا محالة بخطابٍ تصعيدي عنيف من جانب فصائل متطرفة كحماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، وهو ما لا يخدم السلام والأمن في المنطقة. وهذا ما يعبِّر عنه صراحة العديد من الإسرائيليين الذين يرون أن الخطاب اليميني المتطرف لن يؤدِّى سوى إلى تأجيج الوضع ولا يخدم أجندة السلام مع الفلسطينيين، فضلا على تقويضه لمسلسل بناء دولة إسرائيلية ديموقراطية.
الحوادث الأخيرة تثير مخاوف جديّة بشأن احتمالية التصعيد. وقد كثُر الحديث في الأيام القليلة الماضية بالفعل، على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، عن “انتفاضة ثالثة”. الانتفاضتان الأوليان كانتا عبارة عن سلسلةٍ متواصلة من الاحتجاجات وأعمال الشغب التي تفجّرت نتيجة للإحباط الفلسطيني الجماعي من الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، وفشل قمة كامب ديفيد عام 2000، وزيارة أرييل شارون الاستفزازية إلى الحرم القدسي الشريف في القدس.
الانتفاضتان شكلتا بداية العنف من كلا الجانبين، عنف تفاقم بعد تعليق الدبلوماسية وعملية بناء السلام. والآن، تقع أعمال العنف هذه في جو غابت فيه الدبلوماسية الهادفة، وهذا ما يجعل الوضع مقلقًا للغاية. المجتمع الدولي مسؤول أيضًا عن هذا الوضع، ويجب عليه أن يتحرك، وأن يكون أكثر انخراطًا في حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي طال أمده وأودى بحياة العديد من الأبرياء.
لذا، فقد يكون من المفيد تبني خطواتٍ لخفض التصعيد من كلا الجانبين، وكبح جماح الخطاب اليميني المتطرف لبعض الشخصيات القيادية اليمينية في الحكومة الإسرائيلية لتجنب تأجيج الوضع وإعطاء بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة الأرضية المناسبة لتبادل العنف وخطاب الكراهية.
كما يتعين استئناف التعاون الأمني بين إسرائيل وفلسطين، وكذلك عملية بناء السلام نحو حل الدولتين الذي يضمن إقامة دولةٍ فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، دولتان لشعبين يعيشان في سلامٍ ووئام.