كيوبوست – خاص
عادل مرزوق♦
لم يعاصر الشباب الإيراني الذي يشارك في الاحتجاجات اليومية التي مضى عليها نحو ثلاثة أشهر هبوط طائرة قائد الثورة الإمام الخميني، في مطار طهران. هم أيضاً لا يعلمون عن تفاصيل الحرب الإيرانية- العراقية إلا ما يَرِد في المقررات المدرسية من معلومات وأساطير سرعان ما تتبخر. وبالنسبة إلى كثير منهم، لا يوجد من الدلائل والقرائن ما يكفي للاعتقاد بأن الولايات المتحدة هي “الشيطان الأكبر” أو أنها الدولة الراعية للاستكبار والإمبريالية العالمية. يعتقد هؤلاء أن الحياة أبسط كثيراً من هذه الشعارات والعناوين التي تفرض على بلدهم عقوبات اقتصادية خانقة، وعليهم بالنتيجة، ظروفاً معيشية صعبة، وطموحات محدودة ومستقبلاً غامضاً.
تخطى شعار المكون الكردي الذي قاد الاحتجاجات الأخيرة “المرأة، الحياة، الحرية” حدود المناطق الكردية ليكون شعاراً جامعاً. ولئن كانت حرية المرأة هي العنوان الرئيس؛ إلا أن كلاً من “الحياة” و”الحرية” من الملفات التي لا تقل أهمية وقيمة لعدد كبير من الشباب في الجامعات والطرقات، أولئك الذين يبدو أنه لم يعد في مقدورهم مشاركة “الثورة الإسلامية” اهتماماتها وأولوياتها، أكثر مما مضى.

وفي الوقت الذي لا تمثل فيه هذه الاحتجاجات تحدياً وجودياً لنظام يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة، محصنة أمنياً وعسكرياً بمؤسسات عقائدية صلبة البناء والتكوين، إلا أنها الاحتجاجات الأولى التي استطاعت اختراق تحدي الاستمرارية أولاً، والوصول إلى النخبة السياسية والاجتماعية ثانياً. على الأغلب، حتى الفتاة الكردية مهسا أميني (22 عاماً) وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد مزاعم تعرضها للتعذيب على يد الشرطة الأخلاقية، لم تكن تتوقع أن فقدان حياتها سيمثل بداية استدارة لافتة في بلدها.
اقرأ أيضاً: ما دلالات وعواقب تجنيد إيران مقاتلين أفغان في اليمن؟
أزمة داخلية بطعم الخارج
للصراعات المحتدمة في المنطقة حساباتها ومفاعيلها، وكما أن لطهران النفوذ والقدرة على التأثير في الجغرافيا المحيطة بها، بات واضحاً لطهران، أن للبقية أيضاً، القدرة على بناء وصناعة ذات النفوذ والتأثير. إسرائيل تفعل ذلك منذ أشهر عبر سلسلة من الاغتيالات والعمليات الخاصة، وكذلك يفعل آخرون.
قد يكون ما تقوله طهران عن دعم دول غربية وعربية للاحتجاجات وتمويل قنوات ومنصات إيرانية معارضة في الخارج صحيحاً، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة أن لدى الشباب الإيراني قائمة طويلة من المبررات والأسباب للمشاركة في الاحتجاجات والتظاهر ضد النظام السياسي في البلاد. سلوك قوات حفظ النظام المُتساهل في قمع الاحتجاجات (نسبياً) رغم سقوط العديد من القتلى في قوى الأمن الداخلي، يؤكد أن صانعي القرار يدركون ذلك، وأنهم حذرون من اتساع رقعة الاحتجاجات أو ارتفاع سقوف مطالبها. ويمكن ملاحظة أن محاولات الاحتواء تطورت مؤخراً، بشكل غير مسبوق، مع استجابة السلطات لأحد مطالب المتظاهرين؛ وهو تقييد حركة الشرطة الأخلاقية.

أبرز مكاسب خصوم طهران، خلال الأسبوعين الماضيين، تجلَّى في ما تضمنته تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي طالبت خصوم طهران بكف اليد عن التدخل في الشؤون الداخلية وتحريض المتظاهرين، وإيقاف دعم وسائل إعلام المعارضة الإيرانية التي تتمركز في العاصمة البريطانية (لندن). تجدر الملاحظة إلى أنها المرة الأولى التي تفاوض فيها طهران خصومها في ملف داخلي منذ نهاية الحرب العراقية- الإيرانية عام 1988. وهو ما يشير إلى نجاح الخصوم في ما تصفه طهران بأنه محاولة لنقل المواجهة إلى داخلها.
بواعث التغيير وأولوياته
مضى على دستور إيران ونظامها السياسي منذ انتصار الثورة الإسلامية نحو 43 عاماً، شهد الدستور تعديلاً يتيماً في عام 1989م، ليتم دمج منصب رئيس الوزراء مع رئيس الدولة تحت مسمى رئاسة الجمهورية. اليوم، بات التغيير في طبيعة النظام السياسي الإيراني حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، ولا ترتبط هذه الحاجة في التغيير بطبيعة النظام أو توجهاته، بنجاحاته أو إخفاقاته، بل هي قبل ذلك، مسار طبيعي بالإمكان فهمه واستنتاجه من تاريخ أغلب الدول والتجارب السياسية.

على الأغلب، سيكون من شأن الاحتجاجات الأخيرة أن تلعب دوراً محورياً في خلق نسخة أكثر جدية من الجدل الداخلي حول ضرورة التغيير، ولاحقاً في تسريعه. ليس المقصود بالتغيير الشروع في انقلاب كامل على طبيعة النظام واستبداله؛ إذ يمكن القول إن أي مسار للتغيير سيذهب في هذا الاتجاه سيكون مصيره الفشل. على الأغلب، والضروري حتماً، هو أن يكون مسار التغيير من خلال إعادة النظر في هيكلة نظام الحكم ومؤسساته وسياساته الداخلية والخارجية، وبالخصوص، منصب “الولي الفقيه” باعتباره عصب الدولة وضابط إيقاعها.
السؤال الأكثر أهمية من الإشارة إلى حتمية التغيير هو تحديد ماهية هذا التغيير وسيناريوهاته، فرصه وتحدياته. وحده الجدل الداخلي في إيران مَن يستطيع حسم هذه السيناريوهات ومآلاتها، كذلك مدى قبول المرشد الأعلى للثورة، آية الله علي خامنئي، للاضطلاع بهذه المهمة ودعمها أو مقاومتها والتصدي لها. إن أي تغيير إيجابي داخل بنية النظام الإيراني لا بد أن يضمن تقليصاً لصلاحيات المرشد الأعلى وهيمنته على مؤسسات الجمهورية؛ لا بمعنى تجريده من صلاحياته كاملة، لكن بما يجعل من رمزيته السياسية ومركزه الديني أكثر قابلية للتحييد، وهو ما سيبرر تمتعه بالحصانة السياسية. في لحظة ليست بعيدة، سيكون على السيد علي خامنئي، أو مَن يليه، القبول بذلك طواعية أو الدخول بإيران في المزيد من الأزمات الداخلية التي ستزداد مع الوقت تطرفاً وشراسة.
اقرأ أيضاً: إيران: حل شرطة الأخلاق.. خطوة حقيقية أم مناورة سياسية؟
يلاحظ وجود تضخم في عدد مؤسسات إيران السياسية السيادية. يمنح هذا العدد الكبير من المؤسسات الإبقاء على جل النخبة السياسية في إيران داخل الدولة. وسواءً عبر الانتخاب أو التعيين، يجد غالبية السياسيين في إيران، إصلاحيين أو متشددين، وظائف ومهام يقومون بها. تقليص عدد هذه المؤسسات سيتيح للإيرانيين مشاركة سياسية أوسع وتمثيلاً أكثر شفافية في إدارة الدولة. بالنتيجة، ستكون هناك بيئة سياسية أكثر نشاطاً وحيوية، سياسيون يحتكمون إلى صناديق الاقتراع ورضا الناخبين بالدرجة الأولى لا التناغم مع سياسات المرشد أو مباركته الشخصية.
تحتاج إيران إلى فك الارتباط بين دينية الدولة ودينية الفرد. بمعنى، إنهاء إلزامية أن يكون تدين الفرد صورة لتدين الدولة ودليلاً عليها. إلى جانب مظاهر الفساد في النخبة السياسية والاقتصاد المتهالك، تُمثل هذه الإشكالية عصب العديد من مظاهر المعارضة الداخلية والسخط على النظام السياسي في إيران. التغيير والإصلاح المتدرج هما دائماً الخيار الأكثر عقلانية والأقل كلفة على الجميع. خلاف ذلك، يمكن معاينة ما انتهت إليه تجارب الربيع العربي التي انزاحت نحو العنف؛ ففي ذلك درس كبير وحكمة بالغة.
♦رئيس تحرير البيت الخليجي للدراسات والنشر